صور من الأوقاف الإباضيّة في الجزائر

صور من الأوقاف الإباضيّة في الجزائر
إعداد الدكتور يوسف باباواسماعيل جامعة غرداية
أوقاف إباضيَّة الجزائر قديمة، ظهرت إلى الوجود عقب ميلاد قرى وادي مزاب السبعة ووارجلان في الجنوب الجزائريّ، حيث ازدهرت في ظلّ تنامي متطلبات المجتمع المزابيّ وتطور نمط حياته، والأوقاف التي تعارف عليها أهل مزاب وجرت به عادتهم متنوعة في صورها، منها ما يتولَّى تنفيذها الواقف نفسه أو شخص آخر يعطيه الولاية أو أعيان العشيرة، ومنها ما يتولّى الوكيل أو وكيلان في حلقة العزابة بتنفيذها، وسنعرض بعضا منها في هذه الصفحة، ومن يرنو الاستزادة فعليه بالمصادر التي فصلَّت في موضوع أوقاف الإباضيَّة بالجزائر.
أوَّلاً: بعض أوقاف الإباضيَّة داخل منطقة وادي مزاب.
1- وقف آبار سقي الماء.
طبيعة شحّ مصادر المياه بمنطقة وادي مزاب أسهمت بانتشار حبس آبار لسقي الماء في كثير من أحياء البلدة، بداية من قمة القصر إلى غاية الأجنة المترامية الأطراف، حيث يتولَّى حفرها محسنون بجهدهم أو نفقاتهم الخاصَّة، ثم يتبرّعون باستغلال مياهها لعامَّة النَّاس وفق ضوابط عرفيَّة محكمة، كما يخصّص المتبرع بهذا النوع من الآبار مرفقا بجوارها، يستغل لرعاية مصالح البئر وحاجياته من صيانة وتنظيف وحبال وبكرات، وحديثا قام بعض المحسنين بمدِّ الماء الصالح للشرب في أنابيب إلى أماكن عديدة من البلدة مزودة بحنفيات؛ حتَّى يسهل الحصول على هذه المادّة الحيويَّة من قبل النساء والأطفال بخاصَّة.
وتبعا لوقف الآبار، فهناك من حبّس في القديم أحواض ماء مخصَّصة لشرب الحيوان، مثل الحمير التي يستعملها سكان المنطقة بكثرة كوسيلة لتنقّلهم وحمل أثقالهم، وتعرف هذه الأحواض باسم “الجَابِيَةُ”، حيث نجدها منتشرة على طول الطريق الرابط عادة بين القصر القديم والأجنة، وعلى جانبها نخلة باسقة غرست قصد استغلال ثمن غلتها في إصلاح الحوض وتجديده عبر مرور الزمن.
2- وقف النخيل:
تعدّ النخلة مصدر قوت دائم عند سكان وادي مزاب؛ إذ يتَّجه بعض المحسنين إلى وقف نخيل معيَّنة داخل بساتينهم، أو عدد محدّد من العراجين ضمن ما تنتجه النخلة في كلّ سنة، فيتصدّقون بغلتها في ميادين الخير، فبعض منها يوزع على من يحضر مجالس تلاوة القرآن أو محاضر تعليم الكبار والصبيان، قصد تشجيع مورديها، واستمرار عطائها.
3- وقف العقارات:
الوقف العقاريّ بوادي مزاب تنوعت أنماطه، بشكل مسَّ مجالات عدَّة في المجتمع المزابيّ، ومن بينها:
– وقف عقارات تجاريّة وأراض زراعيَّة يُخصّص ريعها عادة لإنشاء المدارس القرآنيَّة الحرة، وتغطية نفقات تسييرها، أو تشييد المساجد وصيانتها، أو تأطير الشباب في أندية ثقافيَّة ورياضيَّة.
– أملاك وقفيَّة -تعرف بدور العشائر- أسهمت بدور فعّال في سدّ حاجات اجتماعيّة عديدة أفرزتها تغيّر الأحوال وتقلّب ظروف الحياة في المجتمع المزابيّ، ولا تزال الأجيال تحافظ على أصولها وتنميها؛ ضمانا لاستمرارها من جيل إلى آخر.
– دُورٌ خاصّة لإقامة الأفراح، وقَّفها محسنون بكامل لوازمها الضروريَّة، تيسيرا على النّاس في إحياء شعيرة الزواج، وتشجيع أبنائهم الشباب على إكمال نصف دينهم.
– تجاور كلّ قرية من قرى وادي مزاب مقابر أصلها أراضي وقّفت بعد شرائها لدفن موتى الإباضيَّة دون أجر، حيث يبنى فيها مصلى لصلاة الجنائز قد يكون مغطى بسقف أو غير مغطى، وكذا غرف خاصّة لغسل الأموات مجهزة بوسائلها، وكلّ هذه المرافق تكون تابعة لوقف المقبرة.
– مظهر حضاريّ يتجلَّى في إقامة مراحيض عموميَّة، تكون غالبا في مداخيل الأجنة (البساتين)، ينتفع بها المارة في حالة الاضطرار، مراعاة لحماية البيئة.
4- وقف المنقولات.
وقف المنقولات بوادي مزاب تعدّدت صورها تبعا لتنوّع حاجات السكان اليوميَّة، فمن بينها الأواني المنزليّة للولائم ولوازم النسيج وَرَحَى الطَّعام (القمح والشعير) والمكاييل، والذهب المصوغ الخالص لتزين العرائس وغيرها من المنقولات، حيث تُحبَّس منفعتها لمن يريد أن يستغلها لقضاء حوائجه في مدة معيّنة، كما يُخصَّص لهذه المنقولات أصلا من عقار أو نخلة، يفرد ثمن ريعها لإصلاح ما فسد منها أو تعويضها.
5- الوقف التعليميّ.
أسهم الوقف التعليميّ في إثراء حركة التعليم بمنطقة وادي مزاب وتطويره، ويظهر هذا من خلال أوعيّة وقفيّة علميَّة عديدة، تتمثَّل فيما يأتي
- مدارس قرآنيَّة حرة تعنى بتحفيظ القرآن وتدريس الفقه الإباضيّ.
- مؤسّسات تعليميَّة تهتم بالمجال التكوين العلميّ في مختلف الأطوار التعليميَّة كالمعاهد، والكليات المتخصّصة في تدريس العلوم الإسلاميّة والحضارة، وعلوم التربيَّة، والتكوين في ميدان الشبه الطبيّ.
- مكتبات تحتوي على كتب ومخطوطات في مختلف الفنون، وخاصّة الإنسانيَّة منها، وقّفت ليستفيد منها الباحثين المتخصّصين وطلاب العلم بصفة عامَّة.
- صناديق وقفيّة مخصّصة لطباعة الكتب ونشرها.
6- وقف الطعام (تْنُوبَا)
تْنُوبَا هي صدقة من طعام ولحم على سبيل الوقف توزّع على قرَّاء القرآن في مواسم معينة من السنة حسب عرف كلّ قصر من قصور وادي مزاب، تُعدّه الأسر بطريقة خاصَّة ووفق مقادير مدوّنة في سجلَّات وكيل أوقاف المسجد، وكما يقال: إنَّ هذا الوقف استحدث في ظلّ ظروف المسغبة التي مرت على المنطقة؛ من أجل أن تسدَّ حاجة الفقراء من الطعام، وتشجيع النّاس على حفظ القرآن، وهي قائمة إلى يومنا هذا تحت إشراف هيئة العزّابة.
ثانيا: بعض أوقاف الإباضيّة خارج منطقة وادي مزاب:
1- أوقاف الإباضيّة داخل الجزائر:
في ظلّ تزايد اغتراب المزابيِّين للعمل في مختلف مناطق الجزائر، بدأت تفكر كلّ جماعة تستقرّ في مدينة ما بإنشاء ديار للعرش يجتمعون فيها لتفقد أحوالهم، واتخاذ مقابر خاصّة لدفن موتاهم، إذ يعتبر ذلك أوّل خطوة في ظهور الأوقاف الإباضيَّة خارج منطقة وادي مزاب، ثم بدأت تتوسّع هذه الأوقاف إلى بناء مساجد ومدارس قرآنيَّة حرة؛ للمحافظة على خصوصيَّة العائلة المزابيَّة التي عرف أفرادها طول الاستقرار بعيدا عن الموطن الأم مزاب.
2- أوقاف الإباضيّة خارج الجزائر.
تتمثَّل الأوقاف الإباضيّة خارج الجزائر في مظهرين:
أ- أوقاف خاصّة لطلبة العلم: اشترى المزابيُّون في مطلع القرن الماضي دورا، وجعلوها وقفا خاصّا لإيواء البعثات الطلابيَّة الذين يزاولون دراستهم في مدارس تونس ومعاهدها؛ كالزيتونة والخلدونيّة، حيث تكوَّن في محاضنها الخصبة بالنشاط العلميّ والاجتماعيّ أجيال متعاقبة من طلاب العلم، أصبحوا بعد الاستقلال سند في بناء الجزائر.
ب- أوقاف لعموم المغتربين المزابيِّين: عُرف عن بني مزاب توقيف دُور لإيواء المغتربين المزابيِّين في مختلف مناطق العالم التي ينتقلون إليها بكثرة، إمَّا للعمل مثل فرنسا، أو لأداء مناسك الحج والعمرة، مثل دور الوقف في جدة ومكة والمدينة المنورة؛ لتمكين الحجاج من أداء مناسكهم على أحسن حال ويسر.
المصادر والمراجع
- إبراهيم الحاج أيوب: رسالة في بعض أعراف وعادات وادي ميزاب، تح: يحي بن بهون حاج امحمَّد، ط1؛ العطف-غرداية: نشر جمعيَّة النَّهضة، 2009م.
- إبراهيم محمَّد طلَّاي: مزاب بلد كفاح، دون رقم الطبعة؛ غرداية-الجزائر: مطبعة الآفاق، دون تاريخ النشر.
- بالحاج قشار: عوائد مزاب سنن لا تقاليد، بلا نشر.
- حمو حميتر: البعد الدينيّ والاجتماعيّ للأوقاف الإباضية في وداي ميزاب حالة قصر –غرداية-، مذكرة لنيل شهادة الليسانس (غير منشورة)، جامعة الجزائر، كلية العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، قسم علم الاجتماع، 2005-2006.
- صالح بن عمر اسماوي: العزَّابة ودورهم في المجتمع الإباضيّ بميزاب، ط1؛ الجزائر: مطبعة الفنون الجميلة، 1429ه/2008م.
- قاسم الشيخ بالحاج: أوقاف الإباضيَّة بالجزائر ودورها الحضاري، غرداية: مجلَّة الحياة، إصدار جمعيَّة التراث، عدد 06، 2002.
- يوسف بن بكير الحاج سعيد: تاريخ بني مزاب دراسة اجتماعيَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة، ط3؛ غرداية: المطبعة العربيَّة، 1435هـ/ 2014م.
- محمّد بن أيوب صدقي: الوقف الاجتهادي عند إباضيَّة الجزائر، الملتقى العلميّ الدوليّ حول الاستثمار في الأوقاف، مركب التوفيق الجزائر العاصمة، المنعقد بتاريخ: 10 إلى 13 ذو القعدة 1433هـ يوافقه 26 إلى 29 سبتمبر 2012.